كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَتَى ثَبَتَ إمْكَانُهَا فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُهَا فِي الْأَزَلِ. فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ لَكَانَتْ مُمْتَنِعَةً إذْ لَيْسَ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ سِوَى نَفْسِهِ يُوجِبُ وُجُودَهَا. فَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً وَالْمُقْتَضِي التَّامُّ لَهَا نَفْسُهُ لَزِمَ وُجُوبُهَا فِي الْأَزَلِ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَاعِلًا إذْ لَا مُقْتَضِي لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا ذَاتُهُ وَذَاتُهُ وَحْدُهَا كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ. فَيَلْزَمُ قِدَمُ النَّوْعِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَكِنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ تَحْصُلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْحِكْمَةِ. وَلِهَذَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُمْكِنٌ يَسْتَوِي طَرَفَا وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمُقْتَضَيْ لِوُجُودِهِ فَيَجِبُ أَوْ لَا يَحْصُلُ فَيَمْتَنِعُ. فَمَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ فَاتِّصَافُهُ بِهِ وَاجِبٌ وَمَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ فَاتِّصَافُهُ بِهِ مُمْتَنِعٌ. وَمَا شَاءَ كَانَ وَوَجَبَ وُجُودُهُ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ. فَالْمُمْكِنُ مَعَ مُرَجِّحِهِ التَّامِّ وَاجِبٌ وَبِدُونِهِ مُمْتَنِعٌ. فَفِي قوله تعالى: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق} وَفِي قوله: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بالقلم} دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا. وَأَقْوَالُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَبِهَذَا فَسَّرُوا قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} وَنَحْوَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: قوله: {وَكَانَ اللَّهُ} كَأَنَّهُ كَانَ شَيْءٌ ثُمَّ مَضَى؟ فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ. هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَلِكَ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ. وَمِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أَتَاهُ رَجُلٌ فَقال: سَمِعْت اللَّهَ يَقول: {وَكَانَ اللَّهُ} كَأَنَّهُ شَيْءٌ كَانَ؟ فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قوله: {كَانَ} فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ و{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مغرا عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَمِّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قال قال يَهُودِيٌّ: إنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا فَكَيْفَ هُوَ الْيَوْمَ؟ فَقال ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَزِيزًا حَكِيمًا. وَهَذِهِ أَقْوَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِخَبَرِ (كَانَ) وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ. فَلَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَزَالُ لِأَنَّهُ مِنْ نَفْسِهِ.
وقال أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا.
وقال أَيْضًا: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ.
فَصْلٌ:
وَكَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ القرآن تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي القرآن تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ مَبْسُوطًا دَلَالَةً أَتَمَّ مِنْ هَذَا. وَهِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بْنِ كَعْبٍ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ؟ فَقال: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فَقال: ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».
وَهُنَا افْتتحَهَا بِقوله: {اللَّهِ} وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ قوله: {وَرَبِّكَ} وَلِهَذَا افْتتحَ بِهِ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القرآن فَقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وَقال: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ اتَّخَذُوا إلَهَا غَيْرَهُ وَإِنْ قالوا بِأَنَّهُ الْخَالِقُ. فَفِي قوله: {خلق} لَمْ يَذْكُرْ نَفْيَ خَالِقٍ آخَرَ إذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا. فَلَمْ يُثْبِتْ أحد مِنْ النَّاسِ خَالِقًا آخَرَ مُطْلَقًا خلق كُلَّ شَيْءٍ وَخلق الإنسان وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ الْإِلَهِيَّةِ.
قال تعالى: {قالوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إنْ كُنْتُمْ فَأعلىنَ} وَقال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} وَقال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إله واحد} وَقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقولونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}. فَابْتَغَوْا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى وَلَمْ يُثْبِتُوا مَعَهُ خَالِقًا آخَرَ. فَقال فِي أَعْظَمِ الْآيَاتِ {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. ذَكَرَهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ القرآن كُلُّ مَوْضِعٍ فِيهِ أحد أُصُولِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالرُّسُلُ وَالْآخِرَةُ. هَذِهِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ وَأَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهَا فِي مِثْلِ قوله: {وَلَا تتبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
فَقال هُنَا {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَرَنَهَا بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَزَادَ فِي آلِ عِمْرَانَ {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} وَهَذَا إيمَانٌ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ.
وقال فِي طَه: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قولا يعلم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}.
فَصْلٌ:
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ مَعْرِفَةُ الإنسان بِمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ كَقوله فِي هَذِهِ السُّورَةِ {الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق} و(الْخلق) مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَهُوَ نَوْعَانِ. فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ بِهِ مِثْلُ (خلق) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ (رَزَقَ) كَقوله: {اللَّهُ الَّذِي خلقكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}. وَكَذَلِكَ الهدى وَالْإِضْلَالُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْبَعْثُ وَالْإِرْسَالُ وَالتَّكْلِيمُ. وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وَقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وَقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} وَقوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قرارا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأحسن صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وَهَذَا فِي القرآن كَثِيرٌ جِدًّا. وَالْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ}، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وَقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}.
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى إضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخلق وَيَرْزُقُ لَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. لَكِنْ هَلْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ هُوَ الْخلق أَوْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخلق هُوَ الْمَخْلُوقُ؟ وَهَذَا فِيهِ قولانِ لِمَنْ يَثْبُتُ اتِّصَافُهُ بِالصِّفَاتِ.
فَأَمَّا مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يَنْفُونَ قِيَامَ الْفِعْلِ بِهِ بِطَرِيقِ الأولى. لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْخلق غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَيَجْعَلُ الْخلق إمَّا مَعْنًى قَامَ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ الْمَعَانِي الْمُتَسَلْسِلَةِ كَمَا يَقوله مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ؛ أَوْ يَجْعَلُ الْخلق قَائِمًا لَا فِي مَحَلٍّ كَقول بَعْضِهِمْ: إنَّهُ قول (كُنْ) لَا فِي مَحَلٍّ وَقول الْبَصْرِيِّينَ: إنَّهُ إرَادَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ. وَهَذَا فِرَارٌ مِنْهُمْ عَنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كَمَا الْتَزَمَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ. وَالْجُمْهُورُ الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ هُمْ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى قوليْنِ. مِنْهُمْ مَنْ يَقول: لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهَذَا قول طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قوليْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَهَؤُلَاءِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. فَإِنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهَا. لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِهَا.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَاسِبُ قول مَنْ قال: الصِّفَاتُ هِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا عَنْهُ لَا مَعَانِيَ تَقُومُ بِهِ كَمَا تَقول ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ. فَهَؤُلَاءِ إذَا قالوا: الصِّفَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَرَادُوا بِذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَلَامِ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا عَنْ ذَاتِهِ وَتَارَةً عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ.
فَمَنْ فَسَّرَ الصِّفَاتِ بِهَذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً وَفِعْلِيَّةً. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالصِّفَاتِ مَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَصْلُحُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَلَكِنْ أَخَذُوا التَّقْسِيمَ عَنْ أُولَئِكَ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالصِّفَاتِ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي والباجي وَغَيْرِهِمْ.
وَالْقول الثاني: أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ. وَهَذَا قول السَّلَفِ وَجُمْهُورِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ. ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ (خلق أَفْعَالِ الْعِبَادِ) أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ خَالِقٌ وَخلق وَمَخْلُوقٌ. وَذَكَرَهُ البغوي قول أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي فِي كِتَابِ (التَّعَرُّفُ بِمَذَاهِبِ التَّصَوُّفِ) أَنَّهُ قول الصُّوفِيَّةِ. وَهُوَ قول الْحَنَفِيَّةِ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهُ (التَّكْوِينُ) وَهُوَ قول الكَرَّامِيَة والهشامية وَنَحْوِهِمَا وَهُوَ قول الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد. وَهُوَ آخِرُ قوليْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.
ثُمَّ إذَا قِيلَ: الْخلق غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهَلْ هُوَ خلق قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقوله أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ؟ أَوْ هُوَ خلق حَادِثٌ بِذَاتِهِ حَدَثَ لَمَّا حَدَثَ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ؟ أَمْ خلق بَعْدَ خلق؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
وَهَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجُمْهُورُهُمْ. وَهُوَ قول طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الكَرَّامِيَة والهشامية وَغَيْرِهِمْ. فَمَنْ قال: إنهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقول: إنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِعْلًا يَقُومُ بِذَاتِهِ. وَاَلَّذِينَ يَقولونَ بِقِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ دَلِيلَ الْأَعْرَاضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ كالكَرَّامِيَة وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ كَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بـ: (مَسْأَلَةِ التَّأْثِيرِ) هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ لَا؟ وَهَلْ التَّأْثِيرُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ أَمْ لَا؟ وَكَلَامُ الرَّازِي فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ.
وَعُمْدَةُ الَّذِينَ قالوا: إنَّ الْخلق هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالتَّأْثِيرَ هُوَ وُجُودُ الْأَثَرِ لَمْ يُثْبِتُوا زَائِدًا أَنْ قالوا: لَوْ كَانَ الْخلق وَالتَّأْثِيرُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْأَثَرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَحَلِّ أَوْ لَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قالوا: يَقُومُ بِنَفْسِهِ.
قالوا: وَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْخَالِقِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَالِقَ لَا هُوَ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ ثَانِيَةٍ يَقولونَ: إنَّهُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ. وَإِذَا قَامَ بِالْخَالِقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَلَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْخلق وَالْمَخْلُوقَ مُتَلَازِمَانِ. فَوُجُودُ خلق بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَلِكَ وُجُودُ تَأْثِيرٍ بِلَا أَثَرٍ. وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ. أحدهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْخلق الْحَادِثَ يَفْتَقِرُ إلَى خلق آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَمَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ الْتَزَمَ التَّسَلْسُلَ وَجَعَلَ لِلْخلق خلقا وَلِلْخلق خلقا لَكِنْ لَا فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ واحد. فَهَذِهِ عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ. وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُخَالِفُهُمْ مَنَعَتْ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِمْ.
فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَخْلُوقِ مَنَعَ تينك الْمُقْدِمَتَيْنِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَكُلٌّ أَجَابَ بِحَسَبِ قوله. مِنْهُمْ مَنْ قال: بَلْ الْخلق وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ عِنْدَكُمْ قَدِيمَةً. وَمَعَ الْقول بِقِدَمِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَقَدُّمَ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخلق وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَخْلُوقِ. وَهَذَا لَازِمٌ للكلابية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ. لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ قِدَمِ إرَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ نَفْيُ قِدَمِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقوله الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ. أَوْ يَقول بِقِدَمِ نَوْعِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقوله أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَغَيْرِهِمْ. لَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقول يُقال لَهُ: التَّكْوِينُ الْقَدِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ. فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خلق الْخلق بِلَا مَشِيئَتِهِ. وَإِنْ كَانَ بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ مُرَادًا وَهَذَا بَاطِلٌ. وَلَوْ صَحَّ لَأَمْكَنَ كَوْنُ الْعَالَمِ قَدِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا بِخلق قَدِيمٍ بِإِرَادَةِ قَدِيمَةٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ. وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قال (القرآن قَدِيمٌ) يَقولونَ: تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. فَالْمَفْعُولُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا. وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ يَقولونَ: الْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمُرَادِ وَالْخلق مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَخْلُوقِ. وَمَا ذُكِرَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْخلق مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَثُبُوتُ إرَادَةٍ بِلَا مُرَادٍ وَخلق بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ. لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يَقول: تُوجَدُ الْإِرَادَةُ وَالْخلق وَيَتَأَخَّرُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ فَيُقال لِهَؤُلَاءِ تَقولونَ: تُوجَدُ الْإِرَادَةُ أَوْ الْخلق مَعَ الْإِرَادَةِ وَلَا يُوجَدُ لَا الْمُرَادُ وَلَا الْمَخْلُوقُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ يُوجَدُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي بِدَايَةِ الْعُقول. فَإِنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الْخلق كَانَ مَوْجُودًا مَعَ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مُؤَثِّرًا تَامًّا اسْتَلْزَمَ وُجُودَ الْأَثَرِ وَلَزِمَ وُجُودُ الْأَثَرِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ. فَإِنَّ الْأَثَرَ (مُمْكِنٌ) وَالْمُمْكِنُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُرَجِّحٍ. وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ. وَلَا يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ إلَّا إذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ الْمُوجِبُ.
وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فَقالتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيّ يَكُونُ الْمُمْكِنُ أَوْلَى بِالْوُقُوعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ.
وقال أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ: بَلْ لَا يَصِيرُ أَوْلَى وَلَكِنَّ الْقَادِرَ أَوْ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ يُرَجِّحُ أحد الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ. وَآخَرُونَ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ يَجِبُ وُجُودُ الْأَثَرِ وَعِنْدَ الدَّاعِي التَّامِّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالرَّازِي والطوسي وَغَيْرُهُمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقولونَ بِالْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ. والمتفلسفة أَوْرَدُوا هَذَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِأَنَّ الْأَثَرَ يُقَارِنُ وُجُودَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ مَعَهُ بِالزَّمَنِ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ إلَّا هَذَا الْقول وَذَاكَ الْقول كالرَّازِي وَغَيْرِهِ فَيَبْقَوْنَ حَيَارَى فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْكَلَامِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ قولا ثَالِثًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ. وَهُوَ أَنَّ التَّأْثِيرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ. فَمَنْ قال بِالتَّرَاخِي مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَقَدْ غَلِطَ وَمَنْ قال بِالِاقْتِرَانِ كالمتفلسفة فَهُمْ أَعْظَمُ غَلَطًا. وَيَلْزَمُ قولهمْ مِنْ الْمُحَالَاتِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ. وَأَمَّا هَذَا الْقول فَعَلَيْهِ يَدُلُّ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ.
قال اللَّهُ تعالى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وَالْعُقَلَاءُ يَقولونَ قَطَّعْته فَانْقَطَعَ وَكَسَّرْته فَانْكَسَرَ. وطَلَّقَ الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَعَتَقَ. فَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَقَعَانِ عَقِبَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ لَا يَتَرَاخَى الْأَثَرُ وَلَا يُقَارَنُ. وَكَذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ مَعَ الْقَطْعِ وَالْكَسْرِ. وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْخلق لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ عَقِبَهُ كَمَا يُقال: كَوْنُ اللَّهِ الشَّيْءَ فَتَكُونُ. فَتَكُونُهُ عَقِبَ تَكْوِينِ اللَّهِ لَا مَعَ التَّكْوِينِ وَلَا مُتَرَاخِيًا.